الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقوله: {ولأدخلنكم} وهو إشارة إلى إيصال الثواب. واللام في {لئن أقمتم} موطئة للقسم وفي {لأكفرن} جواب له ولكنه سد مسد جواب الشرط أيضًا. والعزر في اللغة الرد ومنه التعزير التأديب لأنه يرده عن القبيح ولهذا قال الأكثرون: معنى {عزرتموهم} نصرتموهم لأن نصر الإنسان رد أعدائه عنه. ولو كان التعزير هو التوقير لكان قوله: {وتعزروه وتوقروه} [الفتح: 9] تكرارًا. وههنا أسئلة: لم أخر الإيمان بالرسل عن إقامة الصلاة إيتاء الزكاة مع أن الإيمان مقدم على الأعمال؟ وأجيب بعد تسليم أن الواو للترتيب بأن اليهود كانوا معترفين بأن النجاة مربوطة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إلاّ أنهم كانوا مصرين على تكذيب بعض الرسل فذكر أنه لابد بعد الصلاة والزكاة من الإيمان بجميع الرسل وإلاّ لم يكن لتلك الأعمال أثر. قلت: يحتمل أن يكون التقدير وقد آمنتم أو أخر الإيمان عن العمل تنبيهًا على أن الإيمان إنما يقع معتدًا به إذا اقترن به العمل كقوله: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى} [طه: 82] أو هو من القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس، أو لعل اليهود كانوا مقصرين في الصلاة والزكاة فكان ذكرهما أهم. سؤال آخر ما الفائدة في قوله: {وأقرضتم} بعد قوله: {وآتيتم الزكاة}؟ وأجيب بأن الإقراض أريد به الصدقات المندوبة. قال الفراء: ولو قال وأقرضتم الله إقراضًا حسنًا لكان صوابًا أيضًا إلاّ أنه أقيم الاسم مقام المصدر مثل {وأنبتها نباتًا حسنًا} [آل عمران: 37] آخر لم قال: {فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل} فإن من كفر قبل ذلك أيضًا فقد أخطأ الطريق المستقيم الذي شرعه الله لهم؟ والجواب أجل، ولكن الضلال بعد الشرط المؤكد المعلق به الوعيد العظيم أشنع فلهذا خص بالذكر. {فبما نقضهم ميثاقهم} بتكذيب الرسل وقتلهم أو بكتمانهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم أو بإخلال جملة الشروط المذكورة {لعناهم} قال عطاء: أخرجناهم من رحمتنا. وقال الحسن ومقاتل: مسخناهم حتى صاروا قردة وخنازير. قال ابن عباس: ضربنا الجزية عليهم {وجعلنا قلوبهم قاسية} من قرأ {قسية} فبمعنى القاسية أيضًا إلا أنها أبلغ كعليم وعالم ومنه قولهم «درهم قسي» أي رديء مغشوش لما فيه من اليبس والصلابة بخلاف الدرهم الخالص فإن فيه لينًا وانقيادًا. قالت المعتزلة: معنى الجعل هاهنا أنه أخبر عنها بأنها صارت قاسية كما يقال جعلت فلانًا فاسقًا أو عدلًا {يحرّفون الكلم} بيان لقسوة قلوبهم لأنه لا قسوة أشد من الافتراء على الله وتغيير كلامه {ونسوا حظًا} تركوا نصيبًا وافرًا أو قسطًا وافيًا {مما ذكروا به} من التوراة يريد أن تركهم التوراة وإعراضهم عن العمل بها إغفال حظ عظيم، أن فسدت نياتهم فحرفوا التوراة وزالت علوم منها عن حفظهم كما روي عن ابن مسعود: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية.وقال ابن عباس: تركوا نصيبًا مما أمروا به في كتابهم وهو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ثم بيّن أن نكث العهود والغدر لم يزل عادتهم خلفًا عن سلف فقال: {ولا تزال تطلع على خائنة} أي خيانة كالعافية والحادثة أو صفة لمحذوف مؤنث أي على فعلة ذات خيانة أو على نفس أو فرقة خائنة أو التاء للمبالغة مثل «رجل راوية للشعر» {إلا قليلًا منهم} وهم الذين آمنوا منهم كعبد الله بن سلام وأمثاله، أو هم الذين بقوا على الكفر من غير غدر ونقض لعهودهم {فاعف عنهم واصفح} بعث على حسن العشرة معهم. فقيل منسوخ بآية الجهاد {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} [التحريم: 9] وقيل: المراد فاعف عن مؤمنهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم. وقيل: بناء على أن القليل هم الباقون على العهد منهم أن المراد لا تؤاخذهم بالصغائر ما داموا باقين على العهد وهذا قول أبي مسلم {إن الله يحب المحسنين} قال ابن عباس: معناه إذا عفوت فأنت محسن، وإذا كنت محسنًا فقد أحبك الله. وعلى قول أبي مسلم فالمراد بهؤلاء المحسنين هم القليلون الذين ما نقضوا عهد الله وفي هذا التفسير بعد والله أعلم.ثم قال: {ومن الذين قالوا إنا نصارى} ولم يقل ومن النصارى لأنهم إنما سموا أنفسهم بهذا الاسم ادعاء لنصرة الله، وهم الذين قالوا لعيسى عليه السلام نحن أنصار الله وكانوا بالحقيقة أنصار الشيطان حيث اختلفوا وخالفوا الحق {أخذنا ميثاقهم} إن كان الضمير عائدًا إلى الذين قالوا فالمعنى ظاهر، وإن عاد إلى اليهود فالمعنى أخذنا منهم مثل ميثاق اليهود في أفعال الخير والإيمان بالرسل {فأغرينا} ألصقنا وألزمنا ومنه الغراء الذي يلصق به وغرى بالشيء لزمه ولصق به {بينهم} بين فرق النصارى أو بينهم وبين اليهود. ثم دعا اليهود والنصارى إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: {يا أهل الكتاب} ووحد الكتاب لأنه أخرج مخرج الجنس {مما كنتم تخفون من الكتاب} كصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكصفة الرجم وهذا معجز لأنه لم يقرأ كتابًا وقد أخبرهم بأسرار كتابهم {ويعفو عن كثير} مما تخفونه فلا يبينه مما لا تمس إليه حاجة في هذا الدين. وعن الحسن: ويعفو عن كثير منكم لا يؤاخذه بجرمه {قد جاءكم من الله نور} محمد أو الإسلام {وكتاب مبين} هو القرآن لإبانته ما كان خافيًا على الناس من الحق، أو لأنه ظاهر الإعجاز، ويحتمل أن يكون النور والكتاب هو القرآن والمغايرة اللفظية كافية بين المعطوفين. ولا شك أن القرآن نور معنوي تتقوى به البصيرة على إدراك الحقائق والمعقولات {يهدي به الله} أي بالكتاب {من اتبع رضوانه} من كان مطلوبه اتباع الدين الذي يرتضيه الله لا الذي ألفه بحسب هواه {سبل السلام} طرق السلامة أو طرق دار السلام أو سبيل دين الله: {إن الله هو المسيح ابن مريم} بناء على جواز الحلول {فمن يملك من الله شيئًا} من الذي يقدر على دفع شيء من أفعاله الله ومنع شيء من مراده.وقوله: {إن أراد} شرط جزاء آخر محذوف يدل عليه ما تقدمه والمعنى إن أراد {أن يهلك المسيح} المدعو إلها وغيره فمن الذي يقدر على أن يدفعه عن مراده ومقدوره؟ والمراد بعطف من في الأرض على المسيح وأمه أنهما من جنسهم وشكلهم في الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وسائر الأعراض. فلما سلمتم كونه تعالى خالقًا لغيرهما وجب أن يكون خالقًا لهما ومتصرفًا فيهما. وإنما قال: {وما بينهما} بعد ذكر السموات والأرض ولم يقل «بينهن» لأنه أراد الصنفين أو النوعين. وفي قوله: {يخلق ما يشاء} وجهان: أحدهما يخلق تارة من ذكر وأنثى، وتارة من أنثى فقط كما في حق عيسى، وتارة من غير ذكر وأنثى كآدم عليه السلام. وثانيهما أن عيسى إذا قدر صورة الطير من الطين فإن الله تعالى يخلق فيها اللحمية والحياة معجزة لعيسى، وكذا إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص {نحن أبناء الله وأحباؤه} قيل: عليه أن اليهود لا يقولون ذلك فكيف يجوز نقل ذلك عنهم؟ وأما النصارى فلا يقولون ذلك في حق أنفسهم. وأجيب بأن المضاف محذوف أي نحن أبناء رسل الله أو أريد إن عناية الله تعالى بحالهم أكمل وأشد من اعتناء الأب بالابن، أو اليهود زعموا أن عزيرًا ابن الله، والنصارى أن المسيح ابن الله. وقد يقول أقارب الملوك وحشمه نحن الملوك وغرضهم كونهم مختصين بذلك الشخص الذي هو الملك. عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوفهم بعقاب الله فقالوا: كيف تخوفنا بعقاب الله ونحن أبناء الله أحباؤه؟ ومما يتلو النصارى في الإنجيل الذي لهم أن المسيح قال لهم: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم. ثم إنه سبحانه أبطل عليهم دعواهم بقوله: {قل فلم يعذبكم بذنوبكم} فسئل أن موضع الإلزام هو عذاب الدنيا فحينئذ تمكن المعارضة بوقعة أحد وبقتل أحباء الله كالحسن والحسين عليهما السلام أو عذاب الآخرة. فالقوم ينكرون ذلك ولو كان مجرد إخبار محمد صلى الله عليه وسلم كافيًا لكان مجرد إخباره بأنهم كذبوا في ادّعاء أنهم أحباء الله كافيًا ويصير الاستدلال ضائعًا. وأجيب بأن محل الإلزام عذاب عاجل، والمعارضة بيوم أحد ساقطة لأنهم وإن ادعوا أنهم الأحباء لكنهم لم يدعوا أنهم الأبناء. أو عذاب آجل واليهود والنصارى يعترفون بذلك وأنهم تمسهم النار أيامًا معدودة. ويمكن أن يقال: المراد مسخهم قردة وخنازير بل هذا الجواب أولى ليكون الاحتجاج عليهم بشيء قد دخل في الوجوه فلا يمكنهم الإنكار.{بل أنتم بشر من} جملة {من خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} ليس لأحد عليه حق يوجب أن يغفر له ولا قدرة تمنعه من أن يعذبه، وباقي الآية تأكيد لهذا المعنى {يبيّن لكم} في محل النصب على الحال وفيه وجهان: أن يقدر المبين وهو الدين والشرائع وحسن حذفه لأن كل أحد يعلم أن الرسول إنما أرسل لبيان الشرائع، أو هو ما كنتم تخفون وحسن حذفه لتقدم ذكره وأن لا يقدر المبين. والمعنى يبذل لكم البيان وحذف المفعول أعم فائدة. وقوله: {على فترة} متعلق ب {جاءكم} أو حال آخر. قال ابن عباس: أي على حين فتور من إرسال الرسل وفي زمان انقطاع الوحي. وسميت المدّة بين الرسولين من رسل الله فترة لفتور الدواعي في العمل بتلك الشرائع. وكان بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم خمسمائة وستون أو ستمائة سنة. وعن الكلبي: كان بين موسى وعيسى ألف وسبعمائة سنة وألف نبي، وبين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم أربعة أنبياء، ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب خالد بن سنان العبسي. وأما العنسي بالنون فهو المتنبىء الكاذب. والمقصود أن الرسول بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي وتطرق التحريف والتغير إلى الشرائع المتقدمة وكان ذلك عذرًا ظاهرًا في إعراض الخلق عن العبادات، لأن لهم أن يقولوا إلهنا عرفنا أنه لابد من عبادات ولكنا ما عرفنا كيف نعبدك، فمن الله تعالى عليهم بإزاحة هذه العلة وذلك قوله: {أن تقولوا} أي كراهة أن تقولوا: {ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم} أي لا تعتذورا فقد جاءكم. والحاصل أن الفترة توجب الاحتياج إلى بعثة الرسل والله قادر على ذلك لأنه قادر على كل شيء، فكان يجب في حكمته ورحمته إرسال الرسل في الفترات إلزامًا للحجج وإقامة للبينات. اهـ.
.قال سيد قطب: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم. قل فمن يملك من الله شيئًا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعًا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير}.إن الذي جاء به عيسى عليه السلام من عند ربه هو التوحيد الذي جاء به كل رسول.والإقرار بالعبودية الخالصة لله شأن كل رسول.. ولكن هذه العقيدة الناصعة أدخلت عليها التحريفات؛ بسبب دخول الوثنيين في النصرانية؛ وحرصهم على رواسب الوثنية التي جاءوا بها ومزجها بعقيدة التوحيد، حتى لم يعد هناك إمكان لفصلها وفرزها وتنقية جوهر العقيدة منها.ولم تجئ هذه الانحرافات كلها دفعة واحدة؛ ولكنها دخلت على فترات؛ وأضافتها المجامع واحدة بعد الأخرى؛ حتى انتهت إلى هذا الخليط العجيب من التصورات والأساطير، الذي تحار فيه العقول.حتى عقول الشارحين للعقيدة المحرفة من أهلها المؤمنين بها!وقد عاشت عقيدة التوحيد بعد المسيح عليه السلام في تلامذته وفي أتباعهم. وأحد الأناجيل الكثيرة التي كتبت- وهو إنجيل برنابا- يتحدث عن عيسى عليه السلام بوصفه رسولًا من عند الله. ثم وقعت بينهم الاختلافات. فمن قائل: إن المسيح رسول من عند الله كسائر الرسل. ومن قائل: إنه رسول نعم ولكن له بالله صلة خاصة. ومن قائل: إنه ابن الله لأنه خلق من غير أب، ولكنه على هذا مخلوق لله. ومن قائل: إنه ابن الله وليس مخلوقًا بل له صفة القدم كالأب..ولتصفية هذه الخلافات اجتمع في عام 325 ميلادية «مجمع نيقية» الذي اجتمع فيه ثمانية وأربعون ألفًا من البطارقة والأساقفة. قال عنهم ابن البطريق أحد مؤرخي النصرانية: وكانوا مختلفين في الآراء والأديان. فمنهم من كان يقول: إن المسيح وأمه إلهان من دون الله. وهم «البربرانية».. ويسمون: «الريمتيين». ومنهم من كان يقول: إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار، فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية منها. وهي مقالة «سابليوس» وشيعته. ومنهم من كان يقول: لم تحبل به مريم تسعة أشهر، وإنما مر في بطنها كما يمر الماء في الميزاب، لأن الكلمة دخلت في أذنها، وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها. وهي مقالة «إليان» وأشياعه. ومنهم من كان يقول: إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره، وإن ابتداء الابن من مريم، وإنه اصطفي ليكون مخلصًا للجوهر الإنسي، صحبته النعمة الإلهية، وحلت فيه بالمحبة والمشيئة، ولذلك سمي «ابن الله» ويقولون: إن الله جوهر قديم واحد، وأقنوم واحد، ويسمونه بثلاثة أسماء، ولا يؤمنون بالكلمة، ولا بروح القدس. وهي مقالة «بولس الشمشاطي» بطريرك أنطاكية وأشياعه وهم «البوليقانيون». ومنهم من كان يقول: إنهم ثلاثة آلهة لم تزل: صالح، وطالح، وعدل بينهما. وهي مقالة «مرقيون» اللعين وأصحابه! وزعموا أن «مرقيون» هو رئيس الحواريين وأنكروا «بطرس». ومنهم من كانوا يقولون بألوهية المسيح. وهي مقالة «بولس الرسول» ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفًا..
|